لحن الكلمات
الزائر الكريم، أنت لم تقم بالتسجيل عندنا.. ويشرفنا انضمامك لأسرتنا، لتكون واحدًا منّا. إن كنت تتوفر على رصيدٍ مسبق نرجو أن تقوم بتسجيل الدخول.
لحن الكلمات
الزائر الكريم، أنت لم تقم بالتسجيل عندنا.. ويشرفنا انضمامك لأسرتنا، لتكون واحدًا منّا. إن كنت تتوفر على رصيدٍ مسبق نرجو أن تقوم بتسجيل الدخول.
لحن الكلمات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 "مجهول" للكاتب المصري جمال الغيطاني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الظاهر بيبرس
عضو فضي
عضو فضي
الظاهر بيبرس


عدد المساهمات : 370
تاريخ التسجيل : 24/09/2009
العمر : 48
الموقع : الاردن

"مجهول" للكاتب المصري جمال الغيطاني Empty
مُساهمةموضوع: "مجهول" للكاتب المصري جمال الغيطاني   "مجهول" للكاتب المصري جمال الغيطاني I_icon_minitimeالجمعة أكتوبر 16, 2009 4:49 pm


مجهول
"مجهول" للكاتب المصري جمال الغيطاني Qgc07655wq3"مجهول" للكاتب المصري جمال الغيطاني 6sbnovelinsertip3[right]لحظة إزاحتي الستارة عن نافذة مكتبي العريضة رن جرس الهاتف. لم يمض على دخولي دقيقة. من يعرف بوصولي اليوم مبكرا؟، عادة أجيء بعد العاشرة. لم تتجاوز الثامنة الآن.

أخشى تلك المكالمات المبكرة. أوالمتأخرة ليلا أخاف وقوع أمر مفاجئ.

عندما رفعت السماعة قال اسمه على الفور، لم يستفسر. إنما خاطبني مباشرة كأنه خبيربصوتي مع أنني أسمعه للمرة الأولى، المكالمة خارجية، هذه الأصداء الغامضةالمصاحبة للصوت. بعضها صادر عن أجهزة الإرسال والاستقبال، والأقمار الصناعية والآخر غامض
المصدر.

صوته هادئ،ممسوخ الملامح، مسطح النبرة، خال من أي انفعال. واثق، لا يمكن نسبته إلى
مرحلة معينة من العمر.

قال إنهمصري مقيم في المدينة التي أصلها غدا، إنه يريد ترتيب موعد للقاء رئيس قسم الاجتماع بالجامعة الحرة. قلت إن ذلك مما يسرني، لكنني مرتبط ببرنامج دقيق، لابد من اتصاله بالجهة الداعية.

لم تتغيرنبرة صوته، قال إن العلاقات ليست على ما يرام بين الجامعتين، لكن عدد الطلاب في الجامعة الحرة أكثر، يريدون مناقشتي.


كررت اعتذاري. لا بد من الاتصال بمنسق الزيارة ومنظمها، قال إنه لن يصر الآن، لكنه سيبذل محاولة.

كأن ابتسامة ساخرة تصاحب نطقه، لسبب ما وثقت أنه يتحدث من داخل مقصورة معدنية،لماذا؟، لا أدري..
رحت أستعيد إيقاع كلماته، لهجته. ثمة شيء لا يمكنني تحديده أثار قلقي.


طوال اليوم شغلت بإجراءات شتى، رغم ضآلتها تسبب ارتباكا لي، خطابات تقتضي توقيعي،توصيات لا بد من الإفضاء بها إلى من سيقوم بعملي في أثناء غيابي.
في الثالثة فارقت مبنى المؤسسة، صافحني حارس الأمن طيب الملامح بحرارة، تمنى لي السلامة، كنت أبتعد عن عينيه اللتين تفيضان طيبة ودعة، لسبب ما تذكرت محدثي عبرالهاتف، التفت فجأة، كأنه يرقبني من مكان ما، مع أن المسافة الفاصلة شاسعة.

في المساء، ما بين يقظتي ونومي، أكدت لنفسي أنه ما من داع للشغل بمثل هذه الأمور حتى لا أزيد من عوامل توتري وقلقي التي تنشط قبل سفري، خاصة أنني سأستيقظ مبكرا. تقلع الطائرة في الثامنة تماما، لا بد من الحضور قبل ساعتين، يعني هذا استيقاظي في
الرابعة والنصف، مغادرة البيت في الخامسة. أقيم في ضاحية حلوان البعيدة. أقصى جنوب المدينة..
***


تعرفت بسهولة على السيدة المكلفة باستقبالي، كانت تبتسم بتحفظ وترتدي معطفا ثقيلا. وتمسك حافظة أوراق وظرفين، تطلعت إلى المنتظرين، ليس بينهم أي شخص ذي ملامح عربية، لكنني كنت واثقا أنه يقف في مكان ما يرقبني، أنه يدركني ولا أدركه. تزايد يقيني لحظة دخولي حجرتي المطلة على النهر، إذ رن جرس الهاتف، من؟، إنني لم أضع حقيبتي بعد، ربما يريد موظفو الاستقبال تنبيهي إلى شيء ما، في الطريق قالت السيدة إنهم قاموا بالتأمين عين طوال إقامتي المحددة وقدرها أسبوع من الضروري الالتزام بالنوم في
الفنادق المحددة، واستخدام وسائل المواصلات الموضحة في البرنامج المطبوع. يعني لو دعاني صاحب لقضاء ليلة عنده، يعد ذلك خللا بشروط التأمين، وإذا جرى حادث ما لن تكون هناك أي مسئولية. أوصتني بالالتزام بمواعيد القطارات، وأرقام المقاعد
المحجوزة مقدما، فإذا تضمن البرنامج موعدا لتحرك القطار في العاشرة وثلاث دقائق، وركوب العربة الثالثة، فلا بد من الالتزام، حتى لو كان الجلوس في عربة أخرى مغريا.

إصرارها على تكرار هذه التعليمات دفعني إلى الاستفسار عن حتمية هذا التأمين.

-هل ثمة أخطار معينة؟ هزت رأسها نفيا، قالت إن بلادها من أكثر بلاد العالم أمنا، السلام مستقر تماما، بدا صوتها رسميا، ذا نبر متشابه وهي تذكر أرقاما عن الإحصاءات الرسمية المعلنة في مارس الماضي، وتثبت أن حوادث القتل والاغتصاب والنشل والاغتيال
أقل من العام الماضي.
قالت إن ما تقوله إجراء عادي مع كل ضيف، وأن نص الاتفاق بين شركة التأمين والجامعة يقتضي ضرورة التذكير والتنبيه حتى انتهاء الزيارة، أما التأمين فيسري حتى دخول باب الطائرة. أي أنه لو وقع حادث ما في الممر المؤدي إليها فالشركة تتحمل المسئولية.
رغبت في المزاح لكنني لم أسفر، تبدو متحفظة، محايدة. تحرص على مسافة بيني وبينها.
قدرت حرصها على إيجاد مسافة، إنها تقوم بالواجب، وربما نبهوها إلى عدم التبسط مع الرجال القادمين من الشرق!
لم تكن هي، ولا موظفو الاستقبال، ولا منسق الدعوة، إنما هو، تعرفت على صوته فورا وكأنني أصغيت إليه مرات، قال إنه يأسف لاضطراره الخروج اليوم من العاصمة إلى ضاحية قريبة لأمر عاجل، مفاجئ، ود انتظاري في المطار للترحيب بي، ثم تساءل عما إذا كان أحد الشباب ذهب إلى المطار لاستقبالي؟
-أي شباب؟
قال بسرعة: -العربي.. المصري..
أجبته بالنفي، خطر لي الاستفسار عن المدينة التي ينتمي إليها، متى غادر مصر؟ الغرض من إقامته؟ طبيعة عمله وماذا يفعل هنا؟ كنت مستنفرا.


أوشكت على النطق، فوجئت به يقول إن النقود المعدنية على نفاد، إنه يتكلم من الطريق، يتمنى لي إقامة طيبة، سمعت صفير متقطعا.

قعدت على حافة السرير المرتب، المنظم، أضفى صوته حضور ثقيلا، وخشية مبهمة. كيف يطلع على مواعيد وصولي بتلك الدقة؟، هل يتابعني بوسيلة ما؟ لماذا بدا صوته قريبا، كأنه من الغرفة المجاورة؟
***
.. في العاشرة عدت إلى الفندق، أنهيت جولة للتعرف على المنطقة القديمة، صحبني خلالها طالب أنهى دراسته للغة العربية تمهيدا لسفره إلى الصحراء، موظفا بشركة تبحث عن الغازالطبيعي، اسمه مكتوب في البرنامج الذي تسلمته في القاهرة، لكنني لم أعن بالتأكد
منه، لم يعلق بذهني.
تطلعت إلى الخانة التي يوضع فيها مفتاح الغرفة متوقعا رؤية ورقة تخطرني برسالة هاتفية، رغم خلوها تمهلت. عندي يقين أنه اتصل في أثناء غيابي. يبدو أن وقوفي لفت أنظار موظفة الاستقبال التي سألتني عما إذا كنت في حاجة إلى شيء ما، أومأت شاكرا، مضيت
إلى المصعد، إلى غرفتي.
وضعت المفتاح في الثقب حتى يصعب فتح الباب من الخارج، وإن كنت واثقا أن لديهم وسائل شتى لفتح الحجرات، نقلت المقعد الوحيد. أسندته على قائمين فقط، إذا فتح الباب يسقط محدثا صوتا يكفي لإيقاظي.
قلبت مفتاح المذياع الصغير الذي أحمله معي، فردت الهوائي متعقبا الموجة القصيرة في أطوالها المختلفة، المذيع يقرأ خبرا من القاهرة يقول إن رئيس الوزراء حضر حفل توزيع الجوائز على المتفوقين في النقابة. وأوصاهم بضرورة الانتباه واليقظة حتى تظل راية
المحاماة مرتفعة خفاقة!
في إذاعة أخرى بدا المذيع متحمسا، قال إنه لا بد من التصدي للهجمة الشرسة.

أغلقت المذياع. مططت شفتي. إذا كانت هناك هجمة فلا بد أن تكون شرسة، وهل ثمة هجمة لينة،
كلام، كلام، كلام ولا غير!
صوت باب يغلق، رنين جرس بعيد. تذكرت فندقيا مجربا. عيناه حائرتان، دعاني إلى غرفته المؤقتة، يقيم بها حتى يتم تدبير سكن له في المدينة، كان متخصصا في الأغذية والمشروبات، كتب إلى جوار السرير. لغات مختلفة. روايات، مسرحيات. مؤلفات في الطبخ. أخرى
عن تمارين الجودو، مجلات، صحف، من كوب خزفي تبرز ثلاثة أقلام رصاص، نظارة قراءة ذهبية الإطار. من النوع الذي يمكن طيه وحمله في علبة صغيرة يمكن وضعها في جيب الجاكتة الخارجي.
قال إنه يخطط لافتتاح مشروع في المعادي بعد عودته لبيع الوجبات الجاهزة. بحيث يمكن لربة البيت الموظفة أن تشتري وجبة تحتوي على ملوخية أو قلقاس، حتى محشو ورق العنب أو الكرنب.
قال إن بعض النزلاء يديرون قرص الهاتف كيفما اتفق، سعيا إلى التعرف بالنزيلات، أيقنت
أنه يعني نفسه. كانت غرفته تفيض بوحدة وعزلة، ترى أين هو الآن، هل رجع إلى مصر، أو انتقل إلى بلد آخر، أو قضى في أثناء الحرب؟
في الصباح هاتفني
ما بين اليقظة الآتية والنوم المولي، أمضيت فترة حتى اعتدت على أصوات المكان، استيقظت مرتين. أزحت الستارة قليلا حتى يوقظني الضوء، لكن فاتني أن النهار يتأخر قليلا في هذه البلاد الشمالية. دماغي مثقل. جاءني صوته هادئا، مماثلا للمرة الأولى التي أصغيت إليه فيها في القاهرة، قال إنه يأسف لإزعاجي. لكنه يشعر بواجب خاص تجاهي، يحرص على زيارتي للمتحف، يرجو ألا تفوتني، اليوم أحد، وغدا الاثنين سيبدأ البرنامج الشاق، إنها فرصة لرؤية طريقة عرض الآثار المصرية في الخارج.
تزايدت رغبتي في صده، بل إهانته بشكل ما، لكنني كتمت؟ حرصي على إدراك ما يحيط به أقوى، لم يدع لي فرصة للكلام، إنما قال إنه ينصحني بالمشي قليلا حول الفندق. المنطقة جميلة جدا في الصباح الباكر، لكنها خطيرة جدا في الليل، خاصة بعد العاشرة مساء،
إنها مركز توزيع المخدرات في المدينة.
قال إنه حريص على استفادتي بكل دقيقة، والتزامي أيضا بالبرنامج، هنا نفر عندي غضب، كدت
أصيح: ماذا تريد بالضبط؟، لكنني لزمت الصمت، مصغيا إلى لهجته المصرية، محاولا رصد علامة واحدة تدل أو تشير إلى افتعالها أو تمثلها.
في المتحف قال مرافقي إنه لن يستطيع صحبتي غدا صباحا إلى محطة القطار لأنه يستخدم أقراصا منومة تجعل استيقاظه قبل التاسعة أمرا صعبا، إنه يرجو التخلص منها عندما يلتحق بعمله الجديد في الصحراء العربية أما الآن فلا يلتزم بعمل محدد. إنه يمارس أعمالا حرة
لا تقتضي مواقيت معينة، لم يفسر طبيعة تلك الأعمال، ولم أستفسر.
أثناء تناولنا الغداء معا جلسنا متواجهين، من خلال الزجاج تبدو حديقة متدرجة في النزول، منسقة، أطفال يلعبون، بدا هادئا رصينا، متمهلا. هادئ الألفاظ. فكرت أن أفضي إليه عن هذا المتحدث المجهول. إطلاعه على تفاصيل تحركاتي بدقة، بل يبدو وكأنه
يرقبني من مكان خفي، بحيث يدركني لحظات دخولي الغرفة، أو قبل خروجي، أو فراغي من ارتداء ملابسي.
أرجأت ذلك إلى لحظة مناسبة، كان يتحدث عن أمور لم أحط بها، ربما لا يدركها الزائر العابر، نصحني بالحذر، كراهية الأجانب
هنا متزايدة، أحيانا تقع حوادث عنف، قال إن البلد يبدو هادئا أنيقا، مستوى المعيشة مرتفع، فلأنظر إلى أزياء الناس،
سياراتهم، بيوتهم الفسيحة المزودة بأنظمة خاصة لتزويد السكان بالأشعة الطبيعية خلال أيام الشتاء الطويلة التي تغيب فيها الشمس لأسابيع متتالية. وإذا لاحت فهي بعيدة، باهتة، ظل لأصل لا يدرك.
قال إن مستوى المعيشة المرتفع يمكن ملاحظته في المطاعم، حيث يلتزم الجميع بأصول عريقة، النبيذ الأبيض لا يشرب إلا مع السمك، كل نوع من الطعام يرافقه نبيذ خاص. طبعا الأحمر يخص اللحم، أما طريقة الطهي فتحدد نوع المشروب، إذا كان اللحم مقليا فيستحسن
نبيذ بوردو، ويفضل محصول السنوات الثلاث الأولى من الثمانينيات، وإذا كان مشويا فالأنسب الإسباني الناتج من كروم الجنوب، أما الزجاجات المعبأة بنبيذ ما قبل الستينيات فلا يقربها إلا الأثرياء، إدراك هذه التفاصيل يحدد المستوى الاجتماعي والثقافي.
نبهني إلى طرق الأكل بالشوك والملاعق. قال إنه يستحسن النظر أولا إلى ترتيب رصها بجوار أطباق الطعام. المفروض البدء
بالمجاورة للطبق مباشرة، الأولى كبيرة للشوربة. والثانية أقل حجما للسلاطة. والشوكة لتناول اللحوم، أما السمك فله سكين خاصة، الأخيرة تكون للجبن.
لوح بإصبعه منبها إلى خطورة شرب النبيذ قبل رفع الكئوس وقرعها، مثل هذا الخطأ يسبب نظرات قاسية من الآخرين، تؤدي إلى
ازدراء لا يحتمل. المفروض.. أن ينتظر الجميع حتى يرفع صاحب الدعوة كأسه، يعلن أنه يشرب نخب كذا، عندئذ يرفع الجميع كئوسهم، وبعد تلامس الحواف، يمكن لكل منهم احتساء جرعة، ويجوز بعد ذلك الشرب مباشرة بدون انتظار صاحب الدعوة.
تراجع مرافقي إلى الوراء قليلا، بدا متزنا. مستمتعا بالوقت، لم أهتم كثيرا عندما قال إن والده جزائري الأصل، جاء منذ أربعين سنة في مهمة عابرة، تعرف إلى أمه، وبقي.. هذا سر عينيه السوداوين، وشعره الفاحم.
لم أعلق، إذ التفت ورائي عندما تزايد يقيني أن هناك من يتطلع نحوي، لكن.. ما من آخر يتطلع، المناضد مزدحمة، يبدو أنهم فوج سياحي، أعمارهم متقاربة، يفيضون مرحا، تلك البهجة الملازمة لنزول بلد جديد، وقضاء أوقات مرحة خلو من الهموم، إنني مثلهم تماما.
أرى كل شيء لأول مرة. تستوقفني التفاصيل، ويلفت نظري ما يعتبر مألوفا. صحيح أنني في مهمة، لكن جزءا مطولا من برنامجي ترفيهي، زيارة متاحف، حدائق، ومع ذلك ألزم الصمت، بل أبدي هما.
لماذا لاأظهر مرحا لازمني في رحلاتي السابقة، هل أخبر صاحبي بالمكالمات الغامضة؟. لكنه بدا مهتما، حريصا على توضيح تفاصيل صغيرة، دقيقة، وكأنه مكلف..
***
.. كنت متأهبا، حريصا على درء المباغتة. قررت مخاطبته باستهانة. بدون ألقاب، كما يتحدث كبار السن إلى من هم أصغر سنا، بل نويت تعمد السخرية.
لم يرن الهاتف في الغرفة العتيقة التي وصلتها بعد ساعة ونصف من مفارقة المدينة الأولى، ثاني فندق أنزله، ينتمي إلى القرن السابع عشر، جدرانه، ممراته مغطاة بلوحات تحكي وتشير إلى مواقف يعتز بها أصحابه، عندما توقف نابليون أمام المبنى وطلب كوبا من الماء. قدمها
إليه مدير الفندق وقتئذ على صينية مذهبة، شرب نصفها وهو جالس داخل عربته المطهمة، وإلى جواره مساعده الجنرال. هذه الكوب،
وتلك الصينية داخل صوان خاص، يمكن الفرجة عليهما مقابل رسم معلوم.
صور لضباط كبار أثناء الحرب العالمية الأولى، مشاهير السينما والمسرح، علماءحاصلين على جائزة نوبل، فاتورة دفع قيمتها مرافقو إمبراطور النمسا والمجر. ما شربه الرجال. وقيمة ما قدم إلى الخيول من علف وماء.
على الجدار المواجه للفراش إطار يبرز صورة لرسالة كتبها أديب أو أديبة مشهورة على تلك الطاولة منذ مائة عام، كنت متعجلا، ينتظرني رجل تجاوز الخمسين مكلف بمرافقتي، المفروض أن أضع الحقيبة وأنزل على الفور. لكنني رحت أتفحص محتويات الحجرة أتطلع من النافذة المستطيلة إلى جدار الكاتدرائية الضخمة المواجه.
استدرت مواجها الهاتف، إذن.. أتوقعه. بمجرد دخولي تطلعت إلى موقعه، إلى طرازه، متخيلا صوت رنينه، أيشبه الجرس أو الصفير؟ لكنه لم يتصل إلا بعد تناولي العشاء، بعد خروجي من الحمام، بعد تجفيف جسدي، تسارعت دقات قلبي عندما بدأ الرنين المتقطع.
ارتديت سروالي بسرعة، كأني على ثقة أنه يراني. جاءني صوته هادئا، رزينا، قال إنه يتمنى استمتاعي بوقتي، قاطعته مبديا الاستخفاف، متسائلا عن سبب اختفائه في العاصمة، ألم يبد حرصه على مقابلتي.
ضحك، أول مرة أصغي إلى إيقاع ضحكته، قصيرة، مختصرة، قال إنه حدثني عن حساسيات خاصة بالنسبة له، هذا الخلاف القديم بين أساتذة الجامعتين، الحكومية والحرة، لكن هذا يمكن التغلب عليه .. السبب الحقيقي انشغاله في مساعدة صاحب مطعم. نوبي الأصل، يمت بصلة قرابة إلى عميد كلية طب قصر العيني الشهير الذي يظهر كثيرا في الصور ويعالج الفنانات، صاحب المطعم يواجه مشاكل في تجديد الإقامة بعد رفض طلبه الحصول على الجنسية، قال إن نزولي في هذا الفندق القديم يعكس اهتماما خاصا، إنه سعيد جدا بذلك. وسوف
يطلع كل المصريين على هذا التقدير، سألته، من أي ناحية هو في مصر؟
قال إنه يجمع بين الوجهين البحري والقبلي، والده من المنيا، أمه من المنصورة، لكنه يعتبر نفسه قاهري النشأة رغم مولده في الصعيد.
أي منطقة..أين مسكنه؟
قال إن بيت والده كان أول بناء في منشية البكري، عندما كانت الأراضي كلها خضراء مزروعة، باق حتى الآن، لكن تسكنه أسرة أخرى بعد بيعه، طبعا لم يعد وحيدا..
تساءل -
-هل تريد أن تعرف عدد الغرف؟
سخريته المفاجئة ألزمتني الحذر مرة أخرى، قال إنه سوف يلتقي بي قريبا، بمجرد أن تسمح ظروفه.
قلت مقاطعا
- المهم أن تسمح ظروفي أنا..
رصدت ارتباكا ما في صمته. أو هكذا خيل إلي، قال إن المشاغل هنا عديدة، والظروف مختلفة.
تساءلت بحدة:
- من أنت؟
ضحكته الموجزة مرة أخرى، خيل إلي أن ثمة صدى مصاحبا لصوته بدءا من هذه اللحظة.
قال إنه يدرك سخف ما يقوم به، عندما يكون الإنسان في الغربة يصبح أكثر حذرا.
هل يلمح إلى حرصي على إغلاق الباب؟ إلى إبقاء عيني مفتوحتين أثناء الاستحمام، خشية اقتحام مفاجئ، زمان قرأت عن مجهولين باغتوا
شخصا، قتلوه بوضع آلة حلاقة كهربائية في حوض الاستحمام، قرأت أم رأيت المشهد في فيلم سينمائي.
صمت ..
انتهت المكالمة؟
- ألو!
قال إنه يأسف لهذا الانقطاع، نسي استئذاني في شرب جرعة ماء، قال إنه اضطر إلى فتح الزجاجة وصب الماء في كوب يحتفظ به إلى
جانبه دائما، الجميع يشربون المياه المعدنية في هذه البلاد.. مياه الصنابير لا تصلح إلا للاغتسال، قال إن الزجاجات هنا نوعان، الأولى عادية. والثانية غازية، الأولى أفضل، أقرب إلى مياه النيل، الغازية مضرة بالكلى، خاصة إذا كان الإنسان يعاني متاعب القولون العصبي..
قاطعته..
الله، الله .. هل عرفت أيضا أنني أعاني القولون العصبي.. ازداد صوته رسوخا، أقسم أن العبارة خرجت منه عفوا، بالمصادفة، مثل هذه العبارات يرددها أي مرشد سياحي عادي للضيوف، كما يبثها التليفزيون المحلي أحيانا..
انتبهت إلى حرصي على إبقاء المكالمة. بل أتمنى استمرارها، ربما لأصل إلى حد أتحقق عنده من هويته، أدرك كنهه، أفهم ما يريده
مني؟ تثاءب قائلا إنه ينصحني بزيارة قاعة الضيوف الشرفية في الفندق، ثمة صور نادرة بينها واحدة للأميرة فائزة عندما جاءت إلى البلاد بعد زواجها من شاه إيران، أثناء تمضيتهما شهر العسل. أخرى للملحق الحربي المصري الذي أصبح وزيرا للدفاع فيما بعد. طلب مني التدقيق في هذه الصورة. وسينبهني إلى أمور دقيقة جدا بعد سماع ملاحظاتي!
قلت برقة إنني أشكره حقا على تلك المعلومات القيمة. التي يندر أن يلقاها الإنسان في غربته إلا إذا تطوع أحد بني وطنه للإفضاء بها. لو قابلت مثله في رحلاتي السابقة لعدت بحصيلة أغزر، لكنني من الناحية العملية لم ألتق به وجها لوجه، لماذا يسمعني صوته
فقط، لماذا لا يأتي الآن؟
حملت صوتي ودا حقيقيا، راغبا في الاقتراب، محاولا الاقتناع بأنه يسدي خدمات إلي، بل ألقيت اللوم على ذاتي، لماذا أفترض سوء الظن به، وأنه يريد بي الأذى؟
فوجئت بضحكته المختزلة، الساخرة، تبدل ودي غضبا لكنني كظمته حتى لا أبدو متناقضا، حاولت ألا أغير طبقة صوتي، أعرف أن الهاتف مرشح جيد للأحوال النفسية، وأن الصوت الإنساني عبره يلخص ويبرز الدخائل..
قال بهدوء بارد إنه يعرف تماما شكي فيه، بل كراهيتي له، لكني في النهاية سأدرك خطأ ظنوني كلها. مع الأسف لا يمكن الحديث عن كل شيء في الهاتف.
قال إن هذه البلاد تبدو براقة لمن يراها من الخارج، هذا المجتمع الذي يبدو متحرر،، ممسوك بقبضة حديدية تفوق كل ما عرفته النظم الديكتاتورية، كل شيء يبدو جذابا، لامعا، لكن الجوهر مخالف تماما..
- لماذا لا نلتقي وتشرح أكثر.. يمكن الآن. أشعر أنك قريب..
قال إن لقاءنا يمكن أن يتم في أي وقت، لماذا العجلة؟.ما من مشكلة. نعم.. يمكن أن نلتقي الآن.
- هل يمكن هذا؟
ضحكتان متتابعتان، طبعا.. كل شيء محتمل، لم لا؟
بعد لحظات صمت.
قال إنه لا يريد لحوارنا أن يتحول إلى ألغاز ومعميات لكنه يسألني عن انتظام حركة القطارات. هل لاحظت
دقتها؟
- نعم.. نعم..
قال إنه يعرف دهشتي من مجيء طلاب وأساتذة من أقاليم أخرى إلى حفل العشاء وسهرهم حتى
ساعة متأخرة، وعودتهم إلى مدنهم في الليلة نفسها مع أن المسافات قصية..
قلت إن هذا حقيقي تماما، إذن.. لماذا لا نلتقي الآن؟،
بعد ساعة، يمكنني انتظاره إلى ما بعد منتصف الليل، بل.. إنني أدعوه.
يضحك، لا أرغب سماعها، يفاجئني بها كإهانة مباغتة، قال إن لقاءنا حتمي، كان ممكنا منذ سنوات طويلة في القاهرة، لكن يشاء القدر أن يسافر وأن أرحل ليتم هنا، على أي حال، لكل شيء ترتيب وسياق.
- ليلة سعيدة..
فوجئت بانفرادي، بدون تمهيد أنهى الحديث، أصغيت إلى الصمت كاظما غيظي. يبدأ عندما يشاء، وينتهي حين يرغب، لماذا أستسلم له، لماذا أرضخ؟ لماذا أتحمل ضحكته الهازئة؟ لماذا أسارع برفع السماعة عند رنين الجرس؟ طالعت النهار بعينين مجهدتين، مرهقتين، أحقا غفوت بعض الوقت؟ أرقت حتى يئست من وسن يدركني. كيف سأمضي اليوم المثقل بالمقابلات والزيارات واللقاءات التي يجب أن أبدو خلالها بمظهر مخالف لما هو عندي؟
تناولت إفطاري ورأسي مثقل، شهيتي قاصرة، شربت كوبا من القهوة، وقرصي أسبرين، قلقت لارتعاش أطرافي عند رفع كوب أو فنجان.
لا..لن أتحدث إليه كما جرى الليلة الماضية، يتعمد العبث، التلاعب بي. أين كان ينتظرني هذا البغيض، البارد، الغامض، الساخر، الشامت؟ كيف أحاوره، كيف أصغي إليه متوددا، كيف لم أنتبه إلى خطورة تعقبه، لماذا لم أفض بنبئه إلى الجهة الداعية، ربما يعمل مع جهة تدبر أذى ما.
لكن.. ما من عداوات لي، ما من خصومات. من يقصدني. من يخطط لإيذائي؟
لا بد من وضع حد لهذا التطفل، وقفة، بتر تلك المحاولات المريبة، سأطلب من بدالة الفندق ألا تحول أي مكالمة إلى غرفتي ليلا مهما كانت الأسباب. في النهار يزدحم البرنامج بما لا يدع فرصة لإدراكي، بدت مرافقتي لهذا اليوم مرحة، حريصة على إبداء الود، لكنني واجهتها بملامح محايدة، حتى نية الشروع في ملاطفتها شحبت عندي. كنت أتمنى الفراغ من هذا كله، العودة إلى أيامي القاهرية العادية، رحت أتخيل مراحل عبور المطار هنا وهناك، ولحظات الإقلاع، والوصول.
قالت باسمة إن مواعيد الغداء هنا تبدأ في الحادية عشرة، تعرف أن هذا مخالف لعاداتي. لكن موعدنا في المؤسسة يبدأ الثانية عشرة. سوف يستمر حتى الثالثة، المطاعم كلها تغلق أبوابها في الثانية والنصف.
يبدو المكان مرحا، تتدلى المصابيح محاطة بمظلات صغيرة من الورق الملون، المناضد صغيرة المساحة، وعلى الجدران نقود ورقية شتى، رحت أدقق البصر حتى لمحت جنيها مصريا، ودراهم مغربية، ودينارا أردنيا، وريالا عمانيا. لست أول عربي يمر من هنا.
تطلعت إلى قائمة الطعام، مكتوبة بالألمانية. لوحت بيدي..
- يمكنك أن تختاري لي..
قالت مبتسمة
-هذه مسئولية
- أقبل النتائج..
كنت على وشك أن أقول شيئا ما، عندما رفعت عينيها، بدت أنيقة الحركات. أشارت إلى جانب كتفي اليمنى.
-هل تنتظر أحدا؟
تطلعت إلى السيدة البدينة، القصيرة، المبتسمة، كانت تمسك بيدها جهازا صغيرا للهاتف، لا
يتصل بسلك، تتوسط سماعته البيضاء دائرة حمراء، مضاءة بحدة




جمال الغيطاني








"مجهول" للكاتب المصري جمال الغيطاني 1610157815891604
[/right]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
"مجهول" للكاتب المصري جمال الغيطاني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الامن المصري: سوداني حاول خطف طائرة "لتحرير القدس"
» شاهد الفيلم المصري "التوربيني" 2007 م مشاهدة مباشرة
» "التي لم تمر" و "النبع الظامئ" و"الاتهام والدفاع" و "من عند الصفر " لشوقي بغدادي
» "المباراة لها عزاء" و"الزيارة القصيرة" و"الغيوم" لشوقي بغدادي
» الفيلم اللبناني الممنوع من العرض "مساعدة" أو "Help " من انتاج سنة 2008 مشاهدة مباشرة للكبار فقط

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
لحن الكلمات :: الزاوية الأدبية :: القصَّة-
انتقل الى: