تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
كنتُ في حيرةٍ من أمري في ما قد يكون مناسبًا ليكون موضوع هذا الدرس، إلى أن اتفقت مع نفسي لأن نجعل هذا البحر الطروب موضوعنا....
بحر المتقارب
هو من البحور ذات اللحن الرنان، والآسر للآذان
ويتكون الشطر الواحد من هذا البحر من مقياسٍ واحد فقط مكرر أربع مرات
فعولن + فعولن + فعولن +فعولن
وله ثلاث أقسام تأتي عليها القصيدة
طبعًا الإختلاف بينها كلها يكمن في التفعيلة الأخيرة فقط
لذا سأتطرَّق أولا إلى ما يمكننا في الحشو.
الحشو في الأقسام الثلاثة واحد
يمكننا فيه، تحويل أي فعولن إلى فعولُ دون أي التزام
وكلا الوزنين حسنٌ رنان...
والآن نأتي إلى أقسام هذا البحر
1- القصائد التي تنتهي جميعًا بوزن فعولن
ومثاله قول الشاعر (محمود غنيم):وأطيبُ ساعِ الحياةِ لديَّا
عَشِيَّةَ أخلو إلى ولديَّا
إذا أناْ أقْبلتُ يهتِفُ باسمي الـ
فطيمُ، ويحبو الرضيعُ إليَّا
فأُجلِسُ هذا إلى جانبي
وأُجلسُ ذاكَ على رُكبتيَّا
وأغزو الشِتاءَ بموقدِ فحمٍ
وأبسطُ من فوقهِ راحتيَّا
هُنالكَ أنسى متاعِبَ يومي
كأنْ لم ألقَ في اليومِ شَيَّا
فكلُّ طعامٍ أراهُ لذيذًا
وكلُّ شرابٍ أراهُ شهيَّا
لاحظنا جميعًا في هذه الأبيات الستة انتهاء كل بيتٍ منها بالوزن فعولن والتزم الشاعر ذلك في كلِّ الأبيات. أمَّا في الشطر الأول من كلِّ بيت، لاحظنا انتهاء الشطر الأول وجوبًا بالوزن فعولن، وذلك كونه مصرَّعًا، ولكن في الأبيات التالية، لاحظنا انتهاء الشطر الأول تارةً بـ فعولن، وتارةً بـ فعو.. والشاعر في هذا مخيَّرٌ غير مجبر. كما لاحظنا أن الحشو أتى مرةً على شكل فعولن وأحيانا على شكل فعولُ، وليس في ذلك التزام.هكذا انتهينا من النوع الأول.
2- النوع الثاني لهذا البحر هو ما تنتهي جميع أشطره بالوزن فعولْ
ومثال ذلك، قول العقاد تحت عنوان النومأيا ملكًا عرْشُهُ في العيونِ
يظلُّ دُنيا الكرى بالجناحْ
ضممتَ عليكَ جفونًا تُراكَ؟
أبرُّ بها من وجوه الصباحْ
أيضًا هنا الشاعر مخيرٌ فيما تنتهي به الأشطر الأولى، فله أن ينهيها بالوزن فعولن أو فعو، دون التزام. ولكن في حال أن البيت مصرع وجب عليه أن يتبعه للقافية.وأما نهاية الأبيات فيلتزم بها طوال القصيدة شكلًا واحدًا، وهو فعولْ، الساكنة اللام. والحشو كما في سابقه.3- النوع الثالث لهذا البحر وهو الأكثر شيوعا
أن تنتهي كل الأبيات بالوزن فعو
ومثله قول البارودي في صفات الحاكمإذا سُدتَ في معشرٍ فاتَّبِعْ
سبيل الرَّشادِ وكنْ مخلِصا
ووالِ الكريمَ ودارِ السفيهَ
وصل من أطاعَ وخذ من عصى
ونقِّب لتعلمَ غيب الأمورِ
فإنَّ منَ الحزمِ أن تفحصا
ولا تُبقيَنَّ على فاجِرٍ
فإنَّ اللئامَ عبيدُ العصا
وإنْ خَفِيَ الحقُّ فاصبرْ لهُ
وبادرْ إليه إذا حصحصا
ونلاحظ في الشطر الأول عدم الإلتزام في النهاية، كسابقيه، فالشاعر مخيرٌ فيه، وأما نهاية كل بيت فلزم فيها الشعر الوزن نفسه. وبالنسبة للحشو فواحدٌ في الأنواع الثلاثة.هكذا نكون أنهينا دروسنا لهذا اليوم، وأترككم مع قصيدةٍ لي على هذا الوزن، وليست عموديةً إنما هي من نوع شعر التفعيلة.وَتَسْأَلُ عَنِّي
ولم تدْرِ أنِّي، حزينًا أُغَنِّي
على موتِ حلمي ، وضيقِ التمنِّي
وأطلقُ سهْمي إلى نبضِ قلبي، ليشفي غليلي، ويدمي
غرامي... فيُدميهِ ظنِّي..
وتسألُ عنِّي
إلى أيِّ حتفٍ أنا قد مضيْتُ؟!
ومن أيِّ قبرٍ أطلَّتْ ظلالي للُقْيا حبيبٍ
يُذيب فؤادي على جمرِ حُبٍّ وهجْرٍ ولهوٍ!!
وتسألُ عنِّي
إذا قد أتيتُ وجئتُ بشوقٍ وعِشقٍ
لتكوي ضلوعي بمكرِ التجنِّي
وتزهقَ عمري بذبح الورودِ وشنق الأماني
وقتل الحنينِ
وطعنِ الطريقِ وحرق المكانِ
وفي عمْقِ ذاتي
أراني، تَراني
أنادي وأبكي لجلبِ قيودٍ تُعاني
دهورًا لبعْدِ يساريَ
عن ذاتِ قيدٍ يلفُّ يميني
وأمضي كما أيّ حُرٍّ وأرجو
النهايهْ
فصارتْ وفاتي لعيشِيَ غايهْ...
فتسمعُ صوتي، تدرُّ ابتسامًا
وتضفي أنينًا كضحكِ الذئابِ
وتبكي تقولُ أيا ويْلَ قلبي ظننتَ بأنَّكَ أنتَ البدايهْ؟
ولستَ البدايهْ
ولستَ النهايهْ
فعِشقيَ آيه، وإنِّيَ آيهْ
وتمضي الحكايهْ
إلى ما يفوقُ الخيالَ ... فتمضي الحدودُ بلا أيِّ حدٍّ
وتُدمى القيودُ بأوصالِ أيدٍ
ومنْ عُمْقِ سَكْراتِ عيْشيَ
يعلو ندائي بدمعٍ يُعاني احتراقَ النحيبْ
ويخشى ظلامًا يحلُّ قُبيلَ المغيبْ
وتغدو حروفي كجندٍ يُعاني بُعيد الحروبْ
وقلبي كشمعٍ يذوبُ .... يذوبْ
وتمضي الدروبُ لترحلّ عنِّي
فأبقى وحيدًا كنقْشِ ظلالٍ على مُقْلتيْكِ
كلحنِ وَفاةٍ ونزْفِ قلوبْ..
ونبضُ المماتِ إذا حانَ يجري لضخِّ أنينٍ وحجبِ شروقٍ
فتبكي شموسي على قبرِ يومي
وما من طريقٍ ، فكيفَ تُراها ستمضي الدروبْ؟
فسحقًا وتبًّا لتلكَ الدروبْ!
وبتُّ أُباعِدُ خطوَ جراحي، لأهنأَ ساعًا
بغفلةِ دمعي
وفي القلبِ نارٌ تناغي زوابعَ هجرٍ
لتُردي فؤادًا
عليلاً سقيمًا...
فتهْتِفُ ذِكرى احتراقِ الورودِ
ألسْتَ المداري بصدره شوقًا
لذاتِ الوعودِ؟
أردُّ سريعًا لأغرزَ صمتي بصوت حياتي
"أموتي! تعالَ إليَّ ،هلُمَّ!"
فلَستُ أريدُ البقاء وحيدًا
وليسَ يضيرُ اختناقُ شهيقٍ بعدْوٍ وراءَ
زفيرٍ يغمَّهْ
فَمِثْليَ مَيْتٌ يُماشي رصيفًا ليشكو عياهُ
ويبكي عذابًا يُضاجِعُ يومهْ..
ومثليَ صوتٌ يُعذِّبُ نوحُهُ ناياتِ عِشقٍ
تُقارِعُ نغمهْ...
فأجلِبُ كأسي لأرشِفَ حزنًا، فتدنو لعقلي
بُعيدَ المغيبِ، كآياتِ فكرٍ لتسلب فهمه..
فأمْسكُ صورةَ عِشقٍ رماني، ويبدأُ شجوي بسؤلي
طويلاً، فتهذي شفاهي لتلفظَ دمعًا
يسوِّغُ حبِّي...
فقُلْ لي حبيبي
ألم يأتِ يومٌ لتأتي إليَّ تقول : " أعِدني لحِضنٍ يُثير رعاشَ
فؤادي، ويُرسلُ فيَّ أنوثةَ أمسي!
وحاور عيوني وناغي جفوني..
لتصرخَ فيَّ بقوْلِ " كفاكَ، أما كنتُ من قبلُ حرَّمْتُ
لمْسي؟"
فأعدلُ أمضي إلى بعضِ أمري، فتأتي إليَّ تقولُ أريدُ مزيدًا
فناغي ذراعي ، ولفَّ عيوني بقيدِ هواكَ
وهاتِ ورودًا وقبِّلْ خدودًا
وأمطر بناني بشهدِ غرامٍ، وأطلقْ عناني
بفيضِ هيامٍ
وأجبرْ شفاهي على هجرِ ضرسي..."
فأفعلُ ما قدْ أُمرتُ ولستُ أداري بأنَّ سكوني بقربكَ
منِّي بدا كالجنانِ، وحلوَ المذاقِ وكالشَّهْدِ
طعمَهْ...
فأصحو ألاقي رُفاتيَ فوقَ سريرٍ يُجفِّفُ دمعي..
ويبكي حزينًا عليَّ
فيغفو على رجْفِ حُلمي..
إذا ما أفقتُ فتبدو الجنانُ خرابا
وأبني قصورًا ، أنالُ يبابا
فليتَ حِمامي يزيلُ هوانَ دموعي
ويمحو عذابا
فيطلق سمَّهُ نحوي لأمضي
إلى حتفِ ماضٍ سحيقٍ
يزفُّهُ سهمهْ....